تفصيل

  • الصفحات : 366 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2024،
  • الغلاف : غلاف مقوى،
  • الطباعة : الأولى ،
  • لون الطباعة :أسود،
  • ردمك : 978-9931-08-808-0.

مقدمة

لقد أجمع الباحثون على أنّ البنيوية ليست مذهبا فلسفيا ينبثق عن مدرسة فكرية واحدة، ويمكن أن يقارن بالمذاهب “الوجودية” أو “الماركسية”… بل ظلت البنيوية – حسب اعتقادهم – منهجا في العلم، وطريقة في معاينة الواقع الإنساني، وقراءة الظواهر التي من حوله، ولا يمكن أن تكون في أي حال من الأحوال موضوع عقيدة أو فلسفة تعطي الظاهرة أبعادا تغيّب جوهرها، كدأب فلسفة “فوكو” التي أعلنت ” موت الإنسان”.

غير أنّ البنيوية – وهي عنوان هذا البحث – تمثّل أحدث الاتجاهات الفلسفية التي وصل إليها الفكر الإنساني بعد أن تعلّق طويلا باتجاهين: أحدهما موجه نحو الذات المشخّصة معتبرا إيّاها محور التأمل الفلسفي، وثانيهما مضاد لا يهتم بغير الظواهر المحسوسة ويؤدي إلى ظهور الفلسفة الوضعية ثم الوضعية المنطقية بصورها المتعدّدة… بيد أنّ البنيوية تعدّ ثورة على كلا الاتجاهين، فهي لا تهتّم بالفرد عينه أو الأنا الذي يتغنّى به الوجوديون، كما لا تهتم بالجمع أو بنحن الذي ينشغل به الاجتماعيون، بل هي تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، لأنّها تريد الكشف عن باطن الظواهر، أو عن البنية التي تؤسّسها.

إنّ البنيوية لم تكن أبدا خلقا فجائيا وإنّما تحرّك فكري امتدّت جذوره في عمق التراث الفكري الغربي، الذي كان رافدا أساسيا في تشكيل فلسفات الغرب ومناهجه المتعدّدة والمتنوعة. ومن هنا كانت مرجعيته البنيوية تمثل الانطلاق الأساس للفهم السليم لهذه الظاهرة من جهة، والإطلاّع على المعادلة الحضارية التي يكون طرفها الأساسي هو التراث الفكري الإنساني كلّه، خاصة المنعطفات والأطوار الفكرية البارزة التي شكّلت جذور العلم الحديث.

ولما كان موضوع البحث يتعلّق بأصول النظرية البنيوية، وبغض النظر عمّا كتب عن البنيوية -و هو كثير- ولاسيما تلك الكتابات التي تسعى إلى التعريف بها وذكر أبرز ممثليها، فإنّنا في هذا المؤلف حاولنا البحث عن الأسباب الحقيقية والخلفيات الفلسفية العميقة التي دفعت بالبنيوية إلى إصدار أحكامها الصارمة بحق الإنسان والتاريخ والفلسفة… وذلك بوضع المبادئ التي ترتكز عليها على محك النقد الموضوعي من دون إصدار أحكام قطعية تتعلق بالأصول الفلسفية للبنيوية، وإنّما بهدف إثارة النقاش، و فتح باب التساؤلات التي اعتبرناها محطات بحث رئيسية في هذا المؤلف، تتعلق كلها بالمسائل التي طرحتها البنيوية من الوجهة المعرفية والمنهجية.

من أولى هذه المحطات القول أن قضية البنيوية –في حد ذاتها- قد أثارت الكثير من الجدل بين أهل الدراية من العلماء في مجال النقد، فالبعض يرى بأن البنيوية منهج في المعاينة وطريقة في الرؤية، وهي وليدة الدراسات اللسانيات الحديثة وينفي عنها صفة المذهبية أو كونها حركة فكرية أو فلسفية… أمّا البعض الآخر فيعتقد بأنّ البنيوية ذات جذور فلسفية تعود – فيما تعود – إلى الفلسفة الكانتية لكن دون ذات متعالية… أمّا التساؤل الذي يفرض نفسه عبر صفحات هذا البحث، فهو على وجه التحديد مايلي: إذا ظهرت البنيوية كاتجاه للبحث في العلوم، بدأ بعلم اللغة (اللسانيات) واشتهر في الأنتربولوجيا وعلم النفس، وحقّق إنجازات لا يستهان بها في علوم أخرى، فما علاقة ذلك كلّه بالفلسفة ؟

إنّه على الرغم من الدور الكبير والفعّال الذي لعبته اللسانيات في إنشاء البنيوية النشأة التي نعرفها اليوم، وذلك من خلال تزويدها بالمصطلحات والآليات التي توسّلت بها في المجالات الثقافية الأخرى… إلاّ أنّه لا يمكننا – بأي حال من الأحوال – نكران المناخ الفكري والفلسفي الذي نشأت في أحضانه البنيوية جنينا أو فكرة قبل أن تلفظ مولودا راسيا في القرن العشرين…و هذا ما صرّح به الدكتور فؤاد زكريا عندما أقرّ واعترف بوجود أساس فلسفي تستند عليه الحداثة الغربية. وبما أنّ البنيوية تعدّ أحد أبرز مشاريع الحداثة الغربية، وأكثرها تداولا في مجال النقد…فإنّ البحث لم يتوقف عند أمر التسليم والإقرار بوجود أساس فلسفي تستند عليه البنيوية، حتى لا يتوقف البحث عن تحقيق أهدافه والاكتفاء بشهادة أهل الذكر من النقاد القائلين بالعلمية فقط للمشروع البنيوي ولاسيما أعلام البنيوية أنفسهم من جهة أخرى.

ولأنّ أمر التسليم بالأساس الفلسفي واقعا يفرضه المعطى التاريخي لنشوء المشاريع النقدية الحداثية في الغرب، فهذه المشاريع لم تنشأ مبتورة الصلة عن بعضها البعض، وهذا مالا يقوله النقاد وما تنفيه سنن الطبيعة:فكل مشروع نقدي يخرج إلى الوجود كنتيجة طبيعية لتراجع المشروع السائد الذي يتوارى معلنا أحقية المشروع البديل، بل إنّ البعض يقول إن الجديد ينشأ في كنف القديم ويخرج من عباءته، لكن لكي يؤسّس شرعية وجوده عليه أن ينفي من كان له فضل وجوده فيستقيم بذلك مشروعا متكاملا. ومن ثمّ فإنّ الوقوف عند حقيقة ما قاله الدكتور فؤاد زكريا، الذي أقرّ – كما ذكرنا – بوجود أصل فلسفي للاتجاه البنيوي… قد أفضى بنا إلى الإقرار بوجود جذور فلسفية كان لها الفضل في ولادة مشروع البنيوية في القرن العشرين، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تبيّن لنا أنّ المقصود بالجذور الفلسفية، إنّما يقصد به المناخ الفكري الذي سبق ظهور البنيوية والذي يعزى إليه فضل المساهمة في تهيئة الأجواء لميلاد هذا المشروع.

وتنصب الدراسة في هذا البحث على الوقوف عند معالم هذه القضية – قضية البنيوية – متخذين من النقد الحواري ومن المنهج الوصفي التحليلي منهجا ومعينا في رحلة البحث عن أصول النظرية البنيوية، لأنّ من خصوصيات هذا المنهج النبش والحفر في الخلفيات المعرفية التي أسهمت في ميلاد أي مشروع مهما كانت أصوله.

تشتمل هذه الدراسة على أربعة أبواب، الباب الأول:عنوناه ب:”البنيوية:المفهوم والأعلام”، حيث تعرضنا فيه بالبحث والتحليل عن مفهوم “البنية”و “البنيوية”في محاولة للتعريف بهما، على الرغم من كونهما من أصعب المفاهيم التي يمكن إعطاءها تعريفا موحدا، مع إبراز ما يتمتع به المصطلح من خصائص ومميزات.ثم انتقلنا إلى توضيح نقطة جوهرية تمثلت في العلاقة بين البنيوية والتالريخ، ثم علاقتها بالفلسفة الوجودية مع إبراز لمظاهر التعارض بينهما، ثم تناولنا الحديث عن أشهر مؤسسي البنيوية، وهم أعلام متعددوا التخصصات كانوا قد أسهموا في بلورة البنيوية وتحديد مبادئها ومرتكزاتها.

أما الباب الثاني فعنوانه : “البنيوية بين المنهج والفلسفة” ، حاولنا من خلاله أن نلتمس مرجعية البنيوية بغية فهمها وترجمتها في قالب واضح بسيط، فكان لزاما علينا تحديد مغزاها أولا هل هي فلسفة ؟ وهل هي نظرية ابستمولوجية أم طريقة لقراءة الواقع الإنساني وما يتصل به من فن وثقافة وإبداع؟؟ لقد أراد موضوع هذا الباب أن يتوجه لدراسة الأسس الفلسفية التي تمد البنيوية والتي كانت أحد أهم الأسباب المفضية لبروزها، لذلك قد توجهنا بالدرس إلى المبحث الأنتربولوجي مع كلود ليفي ستروس وطريقته البنيوية التي استهدفت تحويل الدرس الاثنولوجي من التحليل الفلسفي والميتافيزيقي والدراسة التاريخية إلى المعاينة الآنية أو السانكرونية الهادفة أساسا إلى اكتشاف البناءات والأنساق التي تتحكم في منطق الثقافة البدائية .

لقد تعرضنا في هذا الباب للبحث عن الأصول الفلسفية للبنيوية في محاولة للإجابة عن السؤال المركزي : هل البنيوية منهج أم مذهب ؟ كما قمنا بالبحث عن البعد الفلسفي في فكر ليفي ستروس باعتباره أحد أشهر مؤسسي أو أعلام البنيوية في القرن العشرين ، بل توصلنا إلى استعراض النزعة الكانطية عنده . وكان غرضنا من هذا العمل النقدي هو الوقوف على المقدمات والممهدات الأساسية التي كانت تقف وراء ظهور البنيوية.

وتناولنا في الباب الثالث “الأسس البنيوية لفكر الحداثة الغربية ” ، حيث لم يكن هدفنا في هذه الدراسة شرح المذاهب الفلسفية الأساسية في الفكر الغربي الحديث، بقدر ما كنا نهدف على الوقوف إلى إظهارها في جوهرها وحقيقة ترابطها البنيوي الداخلي بين هذه المذاهب، وإن بدت في الظاهر تيارات ومذاهب متناظرة ومتناقضة، فعدنا بذلك إلى المراحل الأولى من تكون العلم الحديث، أو ما يسمى بعصر النهضة وتوقفنا عنده طويلا بالشرح والتفصيل لأهم أسس وأعمدة نتاجات الفكر الحديث وما أحدثوه من انقلاب كوبرنيقي في عصر النهضة، هذا الانقلاب الذي أرسى دعائم الفكر الغربي الحديث، وذلك بعدما كنا قد تعرفنا على مفاهيم الحداثة بشكل عام وعلى الطابع العام للحياة الفكرية في العصور الوسطى، ثم حاولنا بعدها الوقوف على أهم الحقائق التاريخية، والخلفيات الفلسفية العميقة التي شكلت الوريث الشرعي لأهم مشاريع النقد الحداثية الغربية (البنيوية)، أي بدءا من الفلسفة التجريبية على يد “لوك” و”هيوم”، مرورا إلى الفلسفة العقلية (المثالية) على يد “كانط” و”هيغل” و”ديكارت”، وصولا إلى الفلسفة الظاهراتية عند “نيتشه”.

وكان الباب الرابع من حصّة المدارس اللسانية الأوربية والأمريكية وعنوناه ب “البنيوية في اللسانيات”، وفيه استعرضنا – بشيء من التفصيل والتحليل – أبرز وأشهر النظريات والمفاهيم اللسانية البنيوية، من أجل الوصول إلى حقيقة الدرس اللساني الحديث، ومن أجل استعراض الأبعاد التصورية والأصول النظرية للمنهج اللساني البنيوي، وفي سبيل تحقيق ذلك قمنا بالتعرف على أهم الاتجاهات اللسانية في مرحلة ما قبل البنيوية بدءا من القرن السابع عشر إلى غاية القرن العشرين، فتعرضنا بالشرح والتحليل لأهم المدارس اللسانية – الأوربية والأمريكية – البنيوية المختلفة في محاولة للمقارنة بين اتجاهات اللسانيات في المرحلتين، وبغية التماس الثورة التي أحدثتها البنيوية في لسانيات القرن العشرين، من جهة وبغية التماس علاقات التأثر والتأثير بين الاتجاهات والمدارس اللسانية المتباينة من جهة أخرى.

وقد ختم البحث بمجموعة من النتائج والتصورات التي قد تساعد في فهم هذه الظاهرة النقدية البارزة على أن تتم معالجتها بدقة ووضوح، لأنّ توسع الإجراء البنيوي واجتياحه ميادين الدراسات الإنسانية جعل البحث في البنيوية ليس بالأمر الهيّن، وهذا الذي أوجب توفر فضاء معرفي، ووعي متعمق بالفلسفات والمناهج الحديثة.

ومما لا شك فيه أنّ التعرّض لموضوع معقد وشائك لا بّدّ أن يكتنفه صعوبات عديدة وعقوبات جمّة، فكانت المصادر والمراجع المعتمدة من أهم هذه الصعوبات، ولأنّ معظمها لم يكن متوفرا فاقتضى ذلك منّا بذل المزيد من الجهد والوقت بغية توفيره، وجاءت العقبة الثانية مع اللغة، التي وقفت حجرة عثرة في طريق البحث، فمعظم الدراسات والمؤلفات البنيوية فرنسية بالدرجة الأولى، وبما أنّنا لا نتقن هذه اللّغة – في الوقت الحالي – جيدا، فلم نتمكن من الاطلاع على الدراسات الأساسية للبنيوية بلغتها الأصلية، وإنّما اعتمدنا الترجمة واستعنا ببعض الأصدقاء والزملاء الذين لهم باع طويل مع الفرنسية، واستفدنا الكثير من خبراتهم الواسعة التي لولاها لعانت هذه الدراسة من قصور شديد. ونقرّ أنّ بحثنا هذا هو تكملة لبحث سابق، غير أنّنا أضفنا إليه وعدّلنا فيه ما اقتضته المراجعة الدقيقة والتمحيص المنصف.

و نرجو أن يجد القارئ الكريم فيما أضفنا أو عدّلنا تحريا للحقيقة، ومزيدا من النفع، وأن يوفقنا المولى عزّ وجل إلى السير قدما في طريقه القويم، وصراطه المستقيم، حتى نفيد أمّتنا ونستفيد منها، وحتّى يكون رائدنا الصدق فيما نقول، والحق فيما نقصد، والخير فيما نسعى إليه.

“و الله وحده ولي التوفيق.”

د.جازية لزرق

أوت 2012م