تفصيل

  • الصفحات : 273 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2024،
  • الغلاف : غلاف مقوى،
  • الطباعة : الأولى ،
  • ردمك : 978-9931-08-804-2.

مقدمة

لقد أدى التطور في مجال العلم والتقنية الذي دأبت عليه الدول المتقدمة منذ النصف الثاني من القرن العشرين إلى بروز ما يعرف بمجتمع المعلومات والمجتمع ما بعد الصناعي، والذي اتسم باعتماد تلك المجتمعات والدول على المعلومات والحاسبات وشبكات الاتصال في تطورها بشكل أساس، متحولة بذلك في نقلة نوعية من تكنولوجيا الآلة ومجتمع الصناعة إلى التكنولوجيا الفكرية ومجتمع المعلومات.

ولعل هذه النقلة البشرية النوعية، والتي أسست لمجتمعات المعلومات والمعرفة، جاءت كتتويج لمستويات وقفزات نوعية من التقدم والتطور الصناعي الذي صاحبه تطورات أخرى سلبية أحدثت فجوة ذات صبغة اقتصادية واجتماعية وثقافية، أخذت طابع الفقر وعدم المساواة الاقتصادية والعلمية والمعرفية كما كشفت عن تطورات خطيرة ذات طابع بيئي، إذ سادت مشكلات التدهور البيئي والتصحر وارتفاع درجة حرارة الكوكب والانفجار السكاني المشهد العالمي. وتبعا لهذا النتاج السلبي للتطور، وما انجر عنه من آثار اقتصادية وإيكولوجية خطيرة على وجه التحديد، كان لزاما التوجه نحو الاهتمام بمسألة التنمية الاقتصادية وعلاقتها بالبيئة، وتأثيرها على مقدراتها ومواردها من جهة والأثر السلبي لاستغلال تلك الموارد والثروات الطبيعية والزيادة المطردة في استنزافها على البيئة من وجهة أخرى.

من أجل ذلك كان لزاما أن ينتبه العالم ومؤسساته وهيئاته الدولية المختلفة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية، إلى هذا الموضوع الحساس، ودراسة سبل استغلال تلك الإمكانات والمقدرات الطبيعية واستثمارها الاستثمار الأمثل بطرائق رصينة، رشيدة وعقلانية تفي وتلبي الاحتياجات العالمية الحالية وتحفظ حق الأجيال القادمة في نصيبها من تلك المقدرات والموارد في إطار كادر اقتصادي تنموي، يعتمد فلسفة الاستثمار المستدام للموارد ويلتزم بكل معايير الحفاظ على البيئة من خلال التأسيس لتوجه التنمية المستدامة وتجسيدها واقعا وأجندات وبرامج عمل منذ الإرهاصات الأولى لهذا المشروع الحضاري بداية بقمة الأرض ووضع الأرضية الصلبة له، وصولا إلى ما أقرته الأمم المتحدة في أجندتها للتنمية المستدامة 2030.

ومن اجل بناء أرضية صلبة ومتكاملة لهذا الكادر الاقتصادي الإنمائي المستدام، كان لزاما من حيث التأسيس، بذل مروحة من الجهود التي تضع في أجندة اهتماماتها بشكل أساس كل تلك الإشكالات البيئية التي خلفها اعتماد  كل الأنماط الإنمائية الاقتصادية السابقة، ووضع تلك الجهود في اطار أممي من اجل التحسيس الدولي بتأثيرها السلبي والمستدام على الانسان والكوكب ومقدراته وثرواته وموارده، والدعوة إلى وضع مختلف البرامج والأجندات والاستراتيجيات التي تسهم بشكل حقيقي في تَلَمُّسِ مكامن الخطر ومعالجتها بكل فعالية وروح مسؤولية ومعاجلتها أيضا بحلول عملية تسهم في رَأْبِ تَرِكَةِ هذا العالم من عديد الشروخ الايكولوجية من جهة، والعمل باتجاه اعتماد نمط اقتصادي انمائي مستدام ومتكامل الأبعاد يحقق التنمية الاقتصادية المنشودة في اطار من الانصاف الاجتماعي ويحفظ على البيئة الحاضنة حيويتها الايكولوجية ويراعي محدودية مقدراتها ووتيرة تجدد مواردها من وجهة أخرى.

من أجل ذلك، تواترت جهود الأمم المتحدة ذات البعد البيئي والإنمائي من خلال مؤتمراتها ومؤتمرات القمة المتعددة تواليا، لعل أهمها كان مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالبيئة البشرية العام 1972 في ستوكهولم والذي أدى إلى إنشاء برنامج الامم المتحدة للبيئة، ثم إنشاء اللجنة العالمية المعنية بالبيئة والتنمية العام 1983 بموجب قرار للجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي أعدت تقريرا قدم إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1987، استند إلى دراسة استغرقت أربع سنوات، وُسِم هذا التقرير بعنوان” مستقبلنا المشترك” وعرف آنذاك بتقرير بروندتلاند الذي تضمن تحديدا لمفهوم التنمية المستدامة مرورا بقمة الأرض عام 1992 بالبرازيل والتي أسست لخطة عمل عالمية لتعزيز التنمية المستدامة، تلك الخطة التي تشكلت ملامحها العملية الأبرز لاحقا في قمة الألفية واعتماد “إعلان الألفية” وتحديد خارطة طريقه “الأهداف الإنمائية للألفية” العام 2000، وصولا لمؤتمر القمة العالمي للتنمية المستدامة عام 2002 بجوهانسبورغ(ريو+10) فمؤتمر الأمم المتحدة للتنمية المستدامة العام 2012(ريو+20) بالبرازيل.

وكان هذا الجهد العالمي المكثف، بمثابة أرضية حقيقية لإرساء رؤية جديدة للتنمية بأبعاد اقتصادية واجتماعية وبيئية، تستند فلسفتها على الاستدامة وفاقا لمبدأ تلبية احتياجات الأجيال الحالية والحفاظ على حق الأجيال القادمة والمستقبلية من الموارد المتعددة والمقدرات والثروات، اعتمادا على الاستثمار الأمثل والعقلاني والرشيد لتلك الثروات، مع تسطير مجموعة من الأهداف وجب بلوغها على مدى زمني محدد بدقة، ووفاقا لأجندة عمل واضحة المعالم.

ولعل أبرز محطة في هذا الجهد العالمي هو قمة الأمم المتحدة العام 2015 تحت شعار “تحويل عالمنا إلى عالم أفضل”، من خلال أجندة 2030 للتنمية المستدامة والتي شملت 17 هدفا و169 غاية أو مقصدا لمجابهة مختلف القضايا المجتمعية الحساسة التي تتعلق رأسا بمكافحة أوجه الفقر وعدم المساواة والعمل باتجاه التحسين الصحي وتجويد التعليم وتحقيق قفزات إنمائية اقتصادية نوعية في صورة تهيئة فرص العمل اللائقة وتوفير الطاقة النظيفة وحماية البيئة الطبيعية ومواجهة التغيرات المناخية وصون التنوع البيئي وتحقيق السلم الأممي، مع فتح باب الشراكة للجميع ومن دون استثناء أي طرف محلي أو إقليمي أو عالمي للإسهام في تعزيز هذه الأجندة الانمائية وتحقيق أهدافها.

وبغرض عدم التخلف عن هذا الركب الدولي المدعو إلى تفعيل التنمية المستدامة وإنفاذ استراتيجيتها الإنمائية 2030 ومختلف أهدافها وغاياتها ومقاصدها، والانضمام بذلك إلى ركب مختلف الهيئات الدولية والمنظمات العالمية وكل المؤسسات والأطراف ذات العلاقة التي ستسهم في وضع هذه الأجندة الأممية موضع الانفاذ والتطبيق العملي، عملت مؤسسات المكتبات العمومية أيضا بهذا الاتجاه الأممي، وحرصت على أن لا تكون ذلك الاستثناء الذي يتخلف عن هذا الركب الأممي الذي يَحُثُّ الجهود نحو تحقيق التنمية المستدامة وتفعيل أجندتها الإنمائية وتحقيق مختلف أهدافها ومقاصدها.

ولعل الارهاصات الأولى التي أسست لهذا الدور الشريك للمكتبات العمومية باعتبارها كيانات وأنساق مجتمعية تتوجه بدورها نحو الانسان والمجتمع والبيئة والثقافة، ومرافق ومؤسسات معلومات يناط بها عديد المهام ذات الصبغة الاجتماعية والثقافية والبيئية، كانت منذ تأكيد الاتحاد الدولي لجمعيات ومؤسسات المكتبات IFLA في غلاسكو الاسكتلندية ( GlasgowEcosse) اغسطس(أوت) 2002 من خلال وثيقة ~إعلان المكتبات والتنمية المستدامة} في أحد بنودها بأن المكتبات وخدمات المعلومات تعزز التنمية المستدامة من بوابة ضمانها وكفالتها لحرية الوصول إلى المعلومات، لتتوالى إثرها عديد الجهود والوثائق الأممية لهذا الاتحاد الدولي بالتنسيق مع الأمم المتحدة وبالشراكة مع مختلف الهيئات والمؤسسات ذات العلاقة لتحديد ما يمكن أن تختص به المكتبات العمومية كشريك وفاعل محلي في هذا المشروع الحضاري العالمي الرائد والمتعلق بالتنمية المستدامة واستراتيجيتها الإنمائية 2030.

وقد اسفرت تلك الجهود الأممية على تحديد تشكيلة من الأهداف والغايات والمقاصد ذات الصلة الوثيقة بمجال عمل المكتبات العمومية، من خلال الاعتراف بالتداول الحر للمعلومات وادراجه ضمن اهداف التنمية المستدامة، تحت الهدف 16 والغاية 10 (الهدف 16.10) بالصيغة “كفالة وصول الجمهور إلى المعلومات وحماية الحريات الأساسية، وفقًا للتشريعات الوطنية والاتفاقيات الدولية”، التعليم في الهدف 04 بالصيغة “ضمان التعليم الجيد المنصف والشامل وتعزيز فرص التعلّم مدى الحياة للجميع”، كما تم ادراج الثقافة تحت الهدف 11 والغاية 4 (الهدف 11.4) بالصيغة ” تعزيز الجهود الرامية إلى حماية وصون التراث الثقافي والطبيعي العالمي”، وتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات تحت الأهداف 5، 9 و17 ( الغاية 5ب، 9ج، 17.8) بالصيغ: الهدف 5.ب: تعزيز استخدام التكنولوجيا التمكينية، وبخاصة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات من أجل تعزيز تمكين المرأة، الهدف 9.ج: تحقيق زيادة كبيرة في فرص الحصول على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والسعي إلى توفير فرص الوصول الشامل والميسور إلى شبكة الإنترنت في أقل البلدان نموا بحلول عام 2020، الهدف 17.8: التفعيل الكامل لبنك التكنولوجيا وآلية بناء القدرات في مجالات العلم والتكنولوجيا والابتكار لصالح أقل البلدان نمواً بحلول عام 2017، وتعزيز استخدام التكنولوجيات التمكينية ولا سيما تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.

وإثر هذا الاعتراف الأممي بمختلف تلك الأهداف، وتحديد مختلف الأدوار الوثيقة الصلة بميدان عمل مكتبات المطالعة العمومية، تم إعطاء الشارة الأممية للانطلاق الفعلي بغرض انفاذ اجندة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة 2030 وتحقيق مختلف أهدافها بداية من  1جانفي|يناير 2016 حيث عملت مكتبات المطالعة العمومية على الانخراط في ركب المجتمع الدولي الساعي إلى تنفيذ تلك الأهداف وتحقيق غاياتها ومقاصدها الإنمائية، والتوجه نحو ممارسة أدوارها المنوطة بها ليس فحسب كمؤسسات وسيطة في نقل المعلومات والمعارف، وانما بمنطق أنها مؤسسات فاعلة في مجتمعها المحلي ولا مناص من ممارسة دورها الشريك في تحقيق التنمية المجتمعية المحلية والوطنية من بوابة كفالة الوصول الى المعلومات، تعزيز التعليم الشامل وتنويع فرص التعلم، حماية وصون “التراث الوثائقي” تحديدا وإتاحته، إضافة إلى إتاحة الوصول إلى التكنولوجيا التمكينية من أجل تعزيز تمكين المرأة وتطوير قدراتها ومهاراتها، تعزيزا للتنمية المستدامة وتحقيق أهدافها من بوابة أجندتها الإنمائية الاستراتيجية 2030.

وبالنظر لأهمية التنمية المستدامة باعتباره توجها تنمويا أمميا، يأخذ بعين الاعتبار موضوع التنمية المجتمعية بكل أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، ويضع في دفتر شروطه ضرورة الاستثمار العقلاني والرصين لمختلف موارد ومقدرات هذا الكوكب مع الالتزام بحماية حاضنته الايكولوجية من جهة، ورغبة المؤلف في إلقاء الضوء على برنامج الأمم المتحدة وأجندته للتنمية المستدامة 2030 باعتباره الإطار الاستراتيجي لتفعيل هذا التوجه الإنمائي والتعرف عن قرب عن مختلف الجهود المبذولة من قبل المكتبات العمومية وإسهاماتها في تفعيل هذا الإطار الإنمائي: أجندة 2030 كفاعل محلي وشريك في تعزيز التنمية المستدامة من وجهة أخرى يأتي اختيار المؤلف لموضوع هذا الكتاب والذي وُسِمَ بهذا العنوان: المكتبات العمومية والتنمية المستدامة: أدوار جديدة لتعزيز أجندة 2030 المكتبات.

ولقد توفرت لدى المؤلف مجموعة من الدوافع والأسباب حفزته على التوجه نحو الكتابة في هكذا موضوع دون غيره من الموضوعات، تمثلت اساسا في الرغبة الشخصية للمؤلف في خوض معترك هذا الموضوع الذي يعتبر توجها موضوعيا مستجدا ومحل اهتمام أقلام الكتاب والمؤلفين، ما يوجب العمل باتجاهه وإثراءه بالمؤلفات العلمية والأكاديمية من جهة، ومحاولة مقاربته من بوابة مكتبات المطالعة العمومية كمرفق معلوماتي وشريك في الفعل الإنمائي المجتمعي من وجهة أخرى. كما يعد التعرف على مختلف الأدوار التي تناط بهذا النمط العمومي من المكتبات من بوابة أجندة 2030 للتنمية المستدامة، وتحديد مستويات شراكتها في هذا الجهد الأممي الإنمائي من خلال مختلف الجهود تجاه كفالة الوصول والنفاذ إلى المعلومات، تعزيز فرص التعلم، حماية وصون التراث الوثائقي وإتاحته، إضافة إلى تعزيز تمكين المرأة وتطوير قدراتها وتنمية مهاراتها، أسبابَ دَفْعٍ مضافة تجاه الكتابة والتأليف في مثل هكذا موضوع.

ومن أجل الإحاطة أكثر بالموضوع قيد التأليف، قسمنا هذا الكتاب إلى ثلاثة فصول، تطرقنا في الفصل الأول والموسوم ب: الإطار النظري للتنمية المستدامة إلى جملة من الأفكار ذات العلاقة بموضوع التنمية المستدامة من خلال المفهوم، نشأة المصطلح والتطور، مميزات التنمية المستدامة وأهدافها وأبعادها، إضافة إلى مؤشرات التنمية المستدامة، معوقاتها وتحدياتها.

أما الفصل الثاني والموسوم بــ: خطة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة: أجندة 2030 والذي يعد أحد ركائز هذا الكتاب، فقد ناقش في شقه الأول موضوع التنمية المستدامة من بوابة أهم القمم العالمية والمؤتمرات في كرونولوجيا تصاعدية: مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة البشرية (1972)، اللجنة العالمية للبيئة والتنمية (1987)، مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالبيئة والتنمية (1992)، مؤتمر قمة الألفية (2000) واعتماد الأهداف الإنمائية للألفية، مؤتمر القمة العالمي للتنمية المستدامة (2002) مؤتمر الأمم المتحدة للتنمية المستدامة (2012).

أما في شقه الثاني فقد تعرض إلى موضوع التنمية المستدامة من بوابة الإطار الإنمائي الأممي 2030 من خلال الخوض في العناصر التالية: مؤتمر الأمم المتحدة للتنمية المستدامة (2015) واعتماد أجندة 2030 وأهدافها، أجندة 2030 للتنمية المستدامة: التعريف والتركيبة والمحتوى، فالتمويل والتقدم المحرز.

في حين جاء الفصل الثالث والذي وُسِمَ بــ: المكتبات العمومية والتنمية المستدامة: أجندة 2030 كمحطة رئيسية أيضا لهذا الكتاب، وتضمن مدخلا مفاهيميا للمكتبات العمومية على ضوء: التعريف، الأهمية والأهداف الوظائف والمهام، الخدمات والأنشطة، ثم بسط الحديث حول علاقة هذا النوع من مؤسسات المعلومات بموضوع التنمية المستدامة وأجندة 2030 من خلال المكتبات العمومية وأجندة 2030: الأدوار والمهام، ثم الإضاءة على نماذج من تلك المكتبات العمومية وإسهاماتها في هذا النمط من التنمية من بوابة إطارها الاستراتيجي: أجندة 2030 من خلال المكتبات العمومية وأهداف التنمية المستدامة: الإسهامات والنماذج.

غاية ما أرجوه أن يسدد الله الخطى وأن يوفقني إلى اخراج هذا الكتاب في شكل لائق يسهم في مضاعفة المعلومات ومراكمة المعرفة في المجال الموضوعي له، وأن يكون مفيدا لكل الباحثين في مجال التنمية المستدامة واستراتيجيتها الإنمائية.

والله الموفق وبه نستعين.

المؤلف