تفصيل

  • الصفحات : 165 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2024،
  • الغلاف : غلاف مقوى،
  • الطباعة : الأولى ،
  • لون الطباعة :أسود،
  • ردمك : 978-9931-08-729-8.

مقدمـة :

منذ أن ظهر الفكر الفلسفي وهو يسعى إلى التجديد وإبداع النظريات وإنشـاء المذاهب. وانصب هذا الأمر في غايته على ترقية حياة الإنسان، فكانت الفلسفة الغربية المعاصرة بمثابة دفاع عن الإنسان من خلال المذهب الوجودي الذي أسسه كبار الفلاسفة المهتمين بالإنسان، فمنهم الوجوديون الملحدون الذين يئسوا من إمكانية إيجاد حل لمشاكل الإنسان وهمومه ومستقبله، فمالوا بذلك إلى العدمية  واليأس من مستقبل الإنسان جراء الأزمات السياسية والاقتصادية التي ألحقت الدمار بالبشرية في القرن الماضي، و منهم من آمن بسعادة الإنسان وقدم الوسائل التي تضمن ذلك، ورأى بأن ذلك ممكن لو أن الفلسفة تستعيد مكانتها ووظيفتها الروحية، نعني بذلك رأي الفيلسوف الوجودي المؤمن كارل ياسبرس الذي اهتم كثيرا بموضوع الفلسفة والقيمة الإنسانية التي تحملها، هذه القيمة التي أهملها رواد الكر الفكر الحديث بسبب توجههم إلى البحث في مضامين العلم التجريبي، ومعنى هذا أن مشكلة العلاقة القائمة بين الفلسفة والعلم هي التي أثارت اهتمام ياسبرس بموضوع الفلسفة وهي العلاقة التي سنعرض الملامح الكبرى لتطورها من الناحية التاريخية  حتى نبين الأسباب والدوافع التي جعلت بعض الفلاسفة المعاصرين يطرحون مشكلة الفلسفة وخاصة كارل ياسبرس.

لقد كانت الفلسفة قديما على خلاف ما هي عليه اليوم مرتبطة بالعلم، لأن الفيلسوف في تلك الفترة هو الملم بجميع المعارف، سواء كانت معارف طبيعية أم معارف إنسانية، فهذا الفيلسوف اليوناني طاليس إضافة إلى كونه فيلسوفا، كان عالما فلكيا ورياضيا إلى درجة أنه تنبأ مرة بحدوث الكسوف، ولم تخرج أفكار فيثاغورس كذلك عن هذا الإطار، لأنه تناول مجالات علمية كثيرة كعلم الفلك، علوم الطبيعة، الطب . من هنا كانت الفلسفة هي المعرفة الشاملة،و كان لأرسطو كذلك اهتمامات علمية ضخمة، حيث أحاط بعلوم الجو والطبيعيات والرياضيات والفلك، إلى جانب ما كتبه في مجال الفلسفة،  من مضامين  ميتافيزيقية،  سياسية أخلاقية فنية وغيرها حيث أكد مؤرخ العلم جورج سارتون على أن تاريخ أرسطو ليس تاريخا للفلسفة فقط بل هو تاريخ العلم من جهة أخرى . وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن الفلسفة في اليونان نشأت وتطورت إلى جانب العلم، فلم يكن فاصل بينهـما   وامتد هذا الارتباط إلى العصر الوسيط على الرغم من ارتباط الفلسفة بالدين ارتباطا أساسيا، لأن العلوم التي درسها أرسـطو أثرت بقوة في تلك الفـترة، على الفكر المسيحي ، كمـا استفاد منه فلاسفة الإسـلام وألفوا كتبا كثيرة وغنية في الكيـمياء والطب والرياضيات  والموسيقى والشعر والبلاغة، كما هو الشأن بالنسبة لابن سينا الذي جاءت كتاباته متنوعة شملت الطب، الموسيقى، علم النبات والمنطق والطبيعيات والإلهيات والأجرام العلوية … الخ، ولم يكن ابن ســينا لوحده من جمع في معارفه بين الفلسفة والعلم في المرحلة الوسيطية، بل هناك فلاسفة آخرون نذكر : الكندي، الفارابي وابن رشد   وغيرهم . ولكن تأثير أرسطو في الفكر الوسيط دفع بعض المؤرخين إلى الحكم على أنه جمد التفكير البشري وحصره في منطق يتنافى مع روح البحث والاكتشاف .

هذا، وإذا انتقلنا إلى مشكلة العلاقة بين الفلسفة والعلم في العصر الحديث، فإن الانفصال بينهما هو الذي ساد في هذه المرحلة، لأن العلماء قد ميزوا وفصلوا بين العلوم النظرية التي يعتمد أصحابها في البحث على التأمل العقلي المجرد  والعلوم التجريبية التي يعتمد أصحابها في البحث على وسائل مادية حسية ملموسة، والتي أكد عليها روجر بيكون في القرن الثالث عشر للميلاد حيث كان التجريب هو الطريقة المثلى للبحث، لأنه يؤدي إلى اكتشاف الحقائق الجديدة، وهذا هو أساس العلم التجريبي الذي يمكن من السيطرة على لواحق الطبيعة، فظهر بذلك التيار العلمي كاتجاه جديد في المعرفة يتمتع باستقلاليته عن الفلسفة، وأول ما انفصل كانت الفيزياء على يد كوبرنيكس وكيبلر، ليأتي فيما بعد فرنسيس بيكون بالأورغانون الجديد رافضا نسق أرسطو مقدما لأسس المنهج التجريبي الحديث، وأول ما ثار عليه هو المنطق الأرسطي الذي جمد الفكر وأعاق عملية البحث الواسع، خاصة في مسألة القياس التي رأى فيها أن أرسطو قد حصر عملية الاستدلال في مقدمتين فقط لا يمكن للفكر أن يتجاوز حدودهما، والصواب في هذه المسألة هو أنه لكي نحصل على نتيجة دقيقة  وخصبة يجب أن نبحث على أكبر عدد ممكن من الحقائق الجزئية، وهذا هو مبدأ الاستقراء الذي نادى به بيكون كمنهج علمي جديد سلكه كبار علماء الفيزياء وعلى رأسهم نيوتن الذي فصل الفيزياء عن الفلسفة فصلا نهائيا، وتلى ذلك انفصال علم الكيمياء بعد اكتشاف الهيدروجين وإحداث تركيب الماء، وبعدها وضع دالتون النظرية الذرية على أساس رياضي، ليكون البحث الكيميائي قد دخل عصرا جديدا من التقدم، ثم استقل علم الأحياء على يد كلود برنار و في بداية القرن العشرين ظهر كل من علم النفس وعلم الاجتماع والأنتروبولوجيا كعلم قائم بذاته موظفا معطيات المنهج التجريبي كي تكون على درجة عالية من اليقين الذي لم تبلغه الفلسفة.

هذا هو السبب الذي  أدى إلى إعادة طرح موضوع الفلسفة من جديد  وجعل كارل ياسبرس يطرح  مشاكل الإنسان الراهن بطريقته الإنسانية في الفلسفة  تحت لواء المذهب الوجودي الذي يعبر عن  القلق الإيجابي تجاه الواقع المعاصر الموجه نحو تكوين واقع أفضل على أساس أن  الظروف التي نعيشها قد طغى عليها الاكتشاف العلمـي الهائل والتقدم التكنولوجي السريع بما هو محصلة التوجه التجريبي للفكر الحديث، الأمر الذي جعل الآلة سيدا على الوجود الإنساني وجعل  هذا الأخير عبدا لها. من هنا كان علينا نحن كباحثين في الفلسفة أن نراجع الأسس التي يقوم عليها التفكير الراهن وأن نسعى إلى محاولة البحث عن حدود التفكير المادي الذي أسس للأخلاق النفعية مستبعدة كل ما هو روحي، دون أن تراعي مبادئ الحق والخير والحرية في المجتمعات، وهي قيم لا يزال الإنسان محتاج إليها، على أن يضمن ذلك وعي الذات لذاتها . ولهذا  قد فضلنا في هذا الكتاب أن نقدم  نموذجا متواضعا عن قيمة الفلسفة التأملية التي تمجد الإنسان  وتبرهن على حدود التفكير المادي كي نعرف المحيط الاجتماعي والمحيط الثقافي  بأهمية الفلسفة في الحياة اليومية وفي الحياة العلمية، لأن الكثير من الناس يعتبر الفلسفة مجرد نظريات وآراء لا فائدة من الاهتمام بها.و هو الأمر الذي مارسه كارل ياسبرس من خلال إعادة طرح موضوع الفلسفة من جديد نظرا للتشكيك المفرط فيها وحاول أن يعيد لها الاعتبار وأن يبين للفرد المعاصر كيف أنها حاضرة في وجودنا حضورا شاملا وليس حضورا جزئيا .

وفي هذا السياق حاولنا أن نغطي موضوع هذا الكتاب في إطار ثلاث فصول. الفصل الأول  وقد كان فصلا تمهيديا تناولنا فيه ثلاث مباحث، حيث عرفنا فيه بكارل ياسبرس الفيلسوف من خلال حياته، مؤلفاته وأصول فكره الفلسفي .ثم  تعرضنا فيه إلى مذهب كارل ياسبرس ومنهاجه الفلسفي .و في المبحث الثالث تطرقنا فيه إلى الأوضاع الفكرية التي أثرت في كارل ياسبرس وجعلته ينشر الفلسفة بمختلف أبعادها   ويدافع عن قيمتها بصفة شاملة، وقد تناولنا فيه موقف التيار الوضعي وموقف التيار الماركسي من الفلسفة، ثم تعقيب كارل ياسبرس على الموقفين، وهذا ما جعل المبحث الثالث عبارة عن مناقشة بين كارل ياسبرس والتيارات الرافضة للفلسفة التأملية .و أما الفصل الثاني فقد ضمناه  مبحثين . الأول  تعرضنا فيه إلى فلسفة كارل ياسبرس والثاني اشتمل على المستويات التي برر على أساسها ياسبرس أهمية الفلسفة وهي: أهمية الفلسفة على مستوى الينبوع، أهمية الفلسفة على مستوى المبدع، أهمية الفلسفة على مستوى التاريخ . وأخيرا الفصل الثالث، وهو فصل تطبيقي حددنا فيه قيمة الفلسفة في الواقع التجريبي من خلال تجليات الفلسفة في الواقع التجريبي على مستويين، الأول تناولنا فيه علاقة الفلسفة بالعلم كتمهيد للدخول في تجلي الفلسفة الإنسانية في الواقع الطبي، والمستوى الثاني خاص بتجليات فلسفة كارل ياسبرس في الواقع السياسي،  بدأنا فيه بعلاقة الفلسفة بالسياسة وأتممناه بمبادئ الفعل السياسي عند ياسبرس الماثلة في نقد الأسلوب السياسي المعاصر، والدعوة إلى نشر السلام العالمي .